سورة التوبة - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: في أسمائها قال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس رضي الله عنه عن سورة براءة فقال: تلك الفاضحة ما زال ينزل: ومنهم ومنهم، حتى خفنا ألا تدع أحدا. قال القشيري أبو نصر عبد الرحيم: هذه السورة نزلت في غزوة تبوك ونزلت بعدها.
وفي أولها نبذ عهود الكفار إليهم.
وفي السورة كشف أسرار المنافقين. وتسمى الفاضحة والبحوث، لأنها تبحث عن أسرار المنافقين. وتسمى المبعثرة والبعثرة: البحث.
الثانية: واختلف العلماء في سبب سقوط البسملة من أول هذه السورة على أقوال خمسة: الأول- أنه قيل كان من شأن العرب في زمانها في الجاهلية إذا كان بينهم وبين قوم عهد فإذا أرادوا نقضه كتبوا إليهم كتابا ولم يكتبوا فيه بسملة فلما نزلت سورة براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمش ركين بعث بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي ابن أبي طالب رضي الله عنه فقرأها عليهم في الموسم ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عاد تهم في نقض العهد من ترك البسملة. وقول ثان- روى النسائي قال حدثنا أحمد قال حدثنا محمد بن المثنى عن يحيى بن سعيد قال حدثنا عوف قال حدثنا يزيد الرقاشي قال قال لنا ابن عباس: قلت لعثمان ما حملكم إلى أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى {براءة} وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطول فما حملكم على ذلك؟ قال عثمان: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: «ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا». وتنزل عليه الآيات فيقول: «ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا». وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل، وبراءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها وقبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم. وخرجه أبو عيسى الترمذي وقال: هذا حديث حسن. وقول ثالث- روي عن عثمان أيضا.
وقال مالك فيما رواه ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم: إنه لما سقط أو لها سقط بسم الله الرحمن الرحيم معه. وروي ذلك عن ابن عجلان أنه بلغه أن سورة براءة كانت تعدل البقرة أو قربها فذهب منها فلذلك لم يكتب بينهما بسم الله الرحمن الرحيم.
وقال سعيد بن جبير: كانت مثل سورة البقرة. وقول رابع- قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما. قالوا: لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلف أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال بعضهم: براءة والأنفال سورة واحدة.
وقال بعضهم: هما سورتان. فتركت بينهما فرجة لقول من قال أنهما سورتان وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال هما سورة واحدة فرضي الفريقان معا وثبتت حجتاهما في المصحف. وقول خامس- قال عبد الله بن عباس: سألت علي بن أبي طالب لم لم يكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لان بسم الله الرحمن الرحيم أمان وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان. وروي معناه عن المبرد قال: ولذلك لم يجمع بينهما فإن بسم الله الرحمن الرحيم رحمة وبراءة نزلت سخطة. ومثله عن سفيان. قال سفيان بن عيينة: إنما لم تكتب في صدر هذه السورة بسم الله الرحمن الرحيم لان التسمية رحمة والرحمة أمان وهذه السورة نزلت في المنافقين وبالسيف ولا أمان للمنافقين. والصحيح أن التسمية لم تكتب لان جبريل عليه السلام ما نزل بها في هذه السورة قاله القشيري.
وفي قول عثمان: قبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يبين لنا أنها منها دليل على أن السور كلها انتظمت بقوله وتبيينه وأن براءة وحدها ضمت إلى الأنفال من غير عهد من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما عاجله من الحمام قبل تبيينه ذلك. وكانتا تدعيان القرينتين فوجب أن تجمعا وتضم إحداهما إلى الأخرى للوصف الذي لزمهما من الاقتران ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي.
الثالثة: قال ابن العربي: هذا دليل على أن القياس أصل في الدين ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجئوا إلى قياس الشبه عند عدم النص ورأوا أن قصة براءة شبيهة بقصة الأنفال فألحقوها بها؟ فإذا كان الله تعالى قد بين دخول القياس في تأليف القرآن فما ظنك بسائر الأحكام.
الرابعة: قوله تعالى: {بَراءَةٌ} تقول: برئت من الشيء أبرأ براءة فأنا منه برئ إذا أزلته عن نفسك وقطعت سبب ما بينك وبينه. و{بَراءَةٌ} رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذه براءة. ويصح أن ترفع بالابتداء. والخبر في قوله: {إِلَى الَّذِينَ}. وجاز الابتداء بالنكرة لأنها موصوفة فتعرفت تعريفا ما وجاز الاخبار عنها. وقرأ عيسى ابن عمر {براءة} بالنصب على تقدير التزموا براءة ففيها معنى الإغراء. وهي مصدر على فعالة كالشناءة والدناءة.
الخامسة: قوله تعالى: {إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} يعني إلى الذين عاهدهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه كان المتولي للعقود وأصحا به بذلك كلهم راضون فكأنهم عاقد وا وعاهد وا فنسب العقد إليهم. وكذلك ما عقده أئمة الكفر على قومهم منسوب إليهم محسوب عليهم يؤاخذون به إذ لا يمكن غير ذلك فإن تحصيل الرضا من الجميع متعذر فإذا عقد الامام لما يراه من المصلحة أمرا لزم جميع الرعايا.


{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَسِيحُوا} رجع من الخبر إلى الخطاب أي قل لهم سيحوا أي سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين آمنين غير خائفين أحدا من المسلمين بحرب ولا سلب ولا قتل ولا أسر. يقال ساح فلان في الأرض يسيح سياحة وسيوحا وسيحانا ومنه السيح في الماء الجاري المنبسط ومنه قول طرفة بن العبد:
لو خفت هذا منك ما نلتني *** حتى ترى أمامي تسيح الثانية
- واختلف العلماء في كيفية هذا التأجيل وفي هؤلاء الذين برئ الله منهم ورسوله. فقال محمد بن إسحاق وغيره: هما صنفان من المشركين أحدهما كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر فأمهل تمام أربعة أشهر والآخر كانت مدة عهده بغير أجل محدود فقصر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه. ثم هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين يقتل حيث ما أدرك ويؤسر إلا أن يتوب. وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر وانقضاؤه إلى عشر من شهر ربيع الآخر. فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الاربعة الأشهر الحرم. وذلك خمسون يوما: عشرون من ذي الحجة والمحرم.
وقال الكلبي: إنما كانت الاربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهد دون أربعة أشهر ومن كان عهده أكثر من أربعة أشهر فهو الذي أمر الله أن يتم له عهده بقوله: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] وهذا اختيار الطبري وغيره. وذكر محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما: أن هذه الآية نزلت في أهل مكة. وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صالح قريشا عام الحديبية، على أن يضعوا الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودخل بنو بكر في عهد قريش، فعدت بنو بكر على خزاعة ونقضوا عهدهم. وكان سبب ذلك دما كان لبني بكر عند خزاعة قبل الإسلام بمدة، فلما كانت الهدنة المنعقدة يوم الحديبية، أمن الناس بعضهم بعضا، فاغتنم بنو الديل من بني بكر- وهم الذين كان الدم لهم- تلك الفرصة وغفلة خزاعة، وأرادوا إدراك ثأر بني الأسود بن رزن، الذين قتلهم خزاعة، فخرج نوفل بن معاوية ألد يلي فيمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة، حتى بيتوا خزاعة واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقوم من قريش أعانوهم بأنفسهم، فانهزمت خزاعة إلى الحرم على ما هو مشهور مسطور، فكان ذلك نقضا للصلح الواقع يوم الحديبية، فخرج عمرو بن سالم الخزاعي وبديل بن ورقاء الخزاعي وقوم من خزاعة، فقدموا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستغيثين به فيما أصابهم به بنو بكر وقريش، وأنشده عمرو بن سالم فقال:
يا رب إني ناشد محمدا *** حلف أبينا وأبيه الأتلدا
كنت لنا أبا وكنا ولدا *** ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا عتدا *** وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا *** أبيض مثل الشمس ينمو صعدا
إن سيم خسفا وجهه تربدا *** في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا *** ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعموا أن لست تدعو أحدا *** وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا *** وقتلونا ركعا وسجدا
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا نصرت إن لم أنصر كعب». ثم نظر إلى سحابة فقال: «إنها لتستهل لنصر بني كعب» يعني خزاعة.
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبديل بن ورقاء ومن معه: «إن أبا سفيان سيأتي ليشد العقد ويزيد في الصلح وسينصرف بغير حاجة». فندمت قريش على ما فعلت، فخرج أبو سفيان إلى المدينة ليستديم العقد ويزيد في الصلح، فرجع بغير حاجة كما أخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على ما هو معروف من خبره. وتجهز رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مكة ففتحها الله، وذلك في سنة ثمان من الهجرة. فلما بلغ هوازن فتح مكة جمعهم مالك بن عوف النصري، على ما هو معروف مشهور من غزاة حنين. وسيأتي بعضها. وكان الظفر والنصر للمسلمين على الكافرين. وكانت وقعة هوازن يوم حنين في أول شوال من السنة الثامنة من الهجرة. وترك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم الغنائم من الأموال والنساء، فلم يقسمها حتى أتى الطائف، فحاصرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بضعا وعشرين ليلة. وقيل غير ذلك. ونصب عليهم المنجنيق ورما هم به، على ما هو معروف من تلك الغزاة. ثم انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الجعرانة، وقسم غنائم حنين، على ما هو مشهور من أمرها وخبرها. ثم انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتفرقوا، وأقام الحج للناس عتاب بن أسيد في تلك السنة. وهو أول أمير أقام الحج في الإسلام. وحج المشركون على مشاعرهم. وكان عتاب بن أسيد خيرا فاضلا ورعا. وقدم كعب بن زهير بن أبي سلمى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وامتدحه، وأقام على رأسه بقصيدته التي أولها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ***
وأنشد ها إلى آخر ها، وذكر فيها المهاجرين فأثنى عليهم- وكان قبل دلك قد حفظ له هجاء في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعاب عليه الأنصار إذ لم يذكرهم، فغدا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقصيدة يمتدح فيها الأنصار فقال:
من سره كرم الحياة فلا يزل *** في مقنب من صالحي الأنصار
ورثوا المكارم كابرا عن كابر *** إن الخيار هم بنو الأخيار
المكرهين السمهري بأذرع *** كسوافل الهندي غير قصار
والناظرين بأعين محمرة *** كالجمر غير كليلة الأبصار
والبائعين نفوسهم لنبيهم *** للموت يوم تعانق وكرار
يتطهرون يرونه نسكا لهم *** بدماء من علقوا من الكفار
دربوا كما دربت ببطن خفية *** غلب الرقاب من الأسود ضوار
وإذا حللت ليمنعوك إليهم *** أصبحت عند معاقل الاغفار
ضربوا عليا يوم بدر ضربة *** دانت لوقعتها جميع نزار
لو يعلم الأقوام علمي كله *** فيهم لصدقني الذين أماري
قوم إذا خوت النجوم فإنهم *** للطارقين النازلين مقاري
ثم أقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة بعد انصرافه من الطائف ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر وجمادى الأول وجمادى الآخرة، وخرج في رجب من سنة تسع بالمسلمين إلى غزوة الروم غزوة تبوك. وهي آخر غزوة غزا ها. قال ابن جريج عن مجاهد: لما انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تبوك أراد الحج ثم قال: «إنه يحضر البيت عراة مشركون يطوفون بالبيت فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك». فأرسل أبا بكر أميرا على الحج، وبعث معه بأربعين آية من صدر {براءة} ليقرأها على أهل الموسم. فلما خرج دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليا وقال: «أخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذن بذلك في الناس إذا اجتمعوا». فخرج علي على ناقة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العضباء حتى أدرك أبا بكر الصديق رضي الله عنهما بذي الحليفة. فقال له أبو بكر لما رآه: أمير أو مأمور؟ فقال: بل مأمور ثم نهضا، فأقام أبو بكر للناس الحج على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية. في كتاب النسائي عن جابر: وأن عليا قرأ على الناس براءة حتى ختمها قبل يوم التروية بيوم.
وفي يوم عرفة وفي يوم النحر عند انقضاء خطبة أبي بكر في الثلاثة الأيام. فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر فخطب الناس، فحدثهم كيف ينفرون وكيف يرمون، يعلمهم مناسكهم. فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس {براءة} حتى ختمها.
وقال سليمان بن موسى: لما خطب أبو بكر بعرفة قال: قم يا علي فأد رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقام علي ففعل. قال: ثم وقع في نفسي أن جميع الناس لم يشاهدوا خطبة أبي بكر، فجعلت أتتبع الفساطيط يوم النحر.
وروى الترمذي عن زيد بن يثيع قال: سألت عليا بأي شيء بعثت في الحج؟ قال: بعثت بأربع: ألا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا. قال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي وقال: فكنت أنادي حتى صحل صوتي. قال أبو عمر: بعث علي لينبذ إلى كل ذي عهد عهده، ويعهد إليهم ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وأقام الحج في ذلك العام سنة تسع أبو بكر. ثم حج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قابل حجته التي لم يحج غير ها من المدينة، فوقعت حجته في ذي الحجة. فقال: «إن الزمان قد استدار...» الحديث، على ما يأتي في آية النسي بيانه. وثبت الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة. وذكر مجاهد: أن أبا بكر حج في ذي القعدة من سنة تسع. ابن العربي: وكانت الحكمة في إعطاء {براءة} لعلي أن براءة تضمنت نقض العهد الذي كان عقده النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت سيرة العرب ألا يحل العقد إلا الذي عقده أو رجل من أهل بيته، فأراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقطع ألسنة العرب بالحجة، ويرسل ابن عمه الهاشمي من بيته ينقض العهد، حتى لا يبقى لهم متكلم. قال معناه الزجاج.
الثالثة: قال العلماء: وتضمنت الآية جواز قطع العهد بيننا وبين المشركين. ولذلك حالتان: حالة تنقضي المدة بيننا وبينهم فنؤذنهم بالحرب. والإيذان اختيار.
والثانية: أن نخاف منهم غدرا، فننبذ إليهم عهد هم كما سبق. ابن عباس: والآية منسوخة، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاهد ثم نبذ العهد لما أمر بالقتال.


{وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3)}
فيه ثلاث مائل: الأولى: قوله تعالى: {وَأَذانٌ} الأذان: الاعلام لغة من غير خلاف. وهو عطف على {بَراءَةٌ}. {إِلَى النَّاسِ} الناس هنا جميع الخلق. {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} ظرف، والعامل فيه {أَذانٌ}. وإن كان قد وصف بقوله: {مِنَ اللَّهِ}، فإن رائحة الفعل فيه باقية، وهي عاملة في الظروف.
وقيل: العامل فيه {مُخْزِي} ولا يصح عمل {أَذانٌ}، لأنه قد وصف فخرج عن حكم الفعل.
الثانية: واختلف العلماء في الحج الأكبر، فقيل: يوم عرفة. روي عن عمر وعثمان وابن عباس وطاوس ومجاهد. وهو مذهب أبي حنيفة، وبه قال الشافعي. وعن علي وابن عباس أيضا وابن مسعود وابن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة أنه يوم النحر. واختاره الطبري.
وروى ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقف يوم النحر في الحجة التي حج فيها فقال: «أي يوم هذا» فقالوا: يوم النحر فقال: «هذا يوم الحج الأكبر». أخرجه أبو داود. وخرج البخاري عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر الصديق رضي الله عنه فيمن يؤذن يوم النحر بمنى: لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. ويوم الحج الأكبر يوم النحر. وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس: الحج الأصغر. فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشرك.
وقال ابن أبي أوفى: يوم النحر يوم الحج الأكبر، يهراق فيه الدم، ويوضع فيه الشعر، ويلقى فيه التفث، وتحل فيه الحرم. وهذا مذهب مالك، لان يوم النحر فيه كالحج كله، لان الوقوف إنما هو ليلته، والرمي والنحر والحلق والطواف في صبيحته. احتج الأولون بحديث مخرمة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يوم الحج الأكبر يوم عرفة». رواه إسماعيل القاضي.
وقال الثوري وابن جريج: الحج الأكبر أيام منى كلها. وهذا كما يقال: يوم صفين ويوم الجمل ويوم بعاث، فيراد به الحين والزمان لا نفس اليوم. وروي عن مجاهد: الحج الأكبر القران، والأصغر الافراد. وهذا ليس من الآية في شي. وعنه وعن عطاء: الحج الأكبر الذي فيه الوقوف بعرفة، والأصغر العمرة. وعن مجاهد أيضا: أيام الحج كلها.
وقال الحسن وعبد الله بن الحارث بن نوفل: إنما سمي يوم الحج الأكبر لأنه حج ذلك العام المسلمون والمشركون، واتفقت فيه يومئذ أعياد الملل: اليهود والنصارى والمجوس. قال ابن عطية: وهذا ضعيف أن يصفه الله عز وجل في كتابه بالأكبر لهذا. وعن الحسن أيضا: إنما سمي الأكبر لأنه حج فيه أبو بكر ونبذت فيه العهود. وهذا الذي يشبه نظر الحسن.
وقال ابن سيرين: يوم الحج الأكبر العام الذي حج فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجة الوداع، وحجت معه فيه الأمم.
الثالثة: قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} {أَنَّ} بالفتح في موضع نصب. والتقدير بأن الله. ومن قرأ بالكسر قدره بمعنى قال إن الله. {بَرِي ءٌ} خبر {أَنَّ}. {وَرَسُولِهِ} عطف على الموضع، وإن شئت على المضمر المرفوع في {بَرِي ءٌ}. كلاهما حسن، لأنه قد طال الكلام. وإن شئت على الابتداء والخبر محذوف، ان التقدير: ورسوله برئ منهم. ومن قرأ {ورسوله} بالنصب- وهو الحسن وغيره- عطفه على اسم الله عز وجل على اللفظ.
وفي الشواذ {ورسوله} بالخفض على القسم، أي وحق رسوله، ورويت عن الحسن. وقد تقدمت قصة عمر فيها أول الكتاب. {فَإِنْ تُبْتُمْ} أي عن الشرك. {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أي أنفع لكم. {وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أي عن الايمان. {فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} أي فائتيه، فإنه محيط بكم ومنزل عقابه عليكم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8